ظهر النقاش حول قضية الخصوصية الثقافية مع العديد من القضايا الأخرى التي أثارتها موجات العولمة المتزايدة التي ظهرت في عصرنا الحالي، لا سيما مع تصاعد دور شبكات التكنولوجيا والاتصالات والانترنت التي فتحت الطريق أمام العولمة وجعلت من الصعوبة مواجهتها، وهو ما أدى إلى ظهور العديد من الحركات المناهضة للعولمة التي تخشى على خصوصيتها الثقافية أن تنصهر وتندمج في الثقافات الأقوى حتى تبتلعها تمامًا.
هناك تعريفان لمعنى الخصوصية الثقافية: الأول يتبع مدرسة القيم المشتركة التي تقوم بتعريف الخصوصية الثقافية على أنها المحتوى الأخلاقي والفكري الذي يحدد سلوك الفرد في مجموعة سكانية معينة، لكن ذلك التعريف لم يتمكن من شرح الاختلاف الصارخ الموجود في القيم الأخلاقية للثقافة الواحدة؛ فالثقافة العربية على سبيل المثال تختلف قيمها من مكان لآخر فالقيم السائدة في (السودان ) تختلف تمامًا عن تلك السائدة في (تونس ) وهكذا؛ وهو ما أدى بالضرورة إلى ظهور تعريف آخر للخصوصية الثقافية ينظر لها على أنها اهتمامات وقضايا مشتركة، أكثر منها قيم مشتركة.
فنجد أن الثقافة الشعبية الأمريكية على سبيل المثال مشغولة هذه الأيام بمجموعة قضايا مشتركة تتعلق بالفترة التي أطلق عليها ما بعد الحداثة. ومن بين تلك القضايا التي تطرحها تلك الفترة -والتي تحتاج إلى حلول وآراء واضحة ومتسقة مع القيم الإنسانية -قضايا حق الإجهاض وحقوق المثليين جنسيًا بالإضافة إلى حقوق الأقليات العرقية. وعلى الرغم من أنه من المستحيل أن يتفق الأمريكيون على رأي واحد ومحدد في تلك القضايا، فإن ذلك لا يجعلنا نعتبر كل فرد منهم على أنه من ثقافة مختلفة، بل تبقى الثقافة التي تجمعهم واحدة طالما أن التحديات والقضايا التي تجمع بينهم هي نفسها.
ووللخصوصية الثقافية سمات عامة نحصرها فيما يلي:
الارتباط بالميراث الحضاري: ويعني أن التاريخ الطويل الذي مرت به ثقافة ما هو ما يمنحها الخصوصية والتفرد عن بقية الثقافات الأخرى، فلا يمكن النظر إلى الميراث الحضاري للثقافة على أنه ماضٍ ليس له أهمية في تلك الخصوصية، لأنه هو الأساس الذي قد شكلّ تلك الثقافة بالشكل الذي هي عليه في الحاضر.
الجاهزية للدفاع عن النفس: يتمثل ذلك في الضوابط والحدود التي تضعها الخصوصية الثقافية أثناء التفاعل والتواصل مع ثقافات العالم الخارجي، حيث لا يجب عليها أن ترفض ذلك التفاعل تمامًا وتتمركز حول ذاتها لأن ذلك من شأنه أن يجعلها تتصف بالجمود والركود، لكنها في الوقت نفسه لا يجب أن تنجرف في ذلك التفاعل دون أن تدافع عن نفسها وإلا ستنتهي إلى هيمنة بعض الثقافات الأخرى عليها.
الجمع بين الثابت والمتغير: أي أنها تنفتح على الثقافات الأخرى وتتأثر بها، كما تتأثر بالعوامل التاريخية والسياسية وغيرها من العوامل الأخرى وتتغير معها، دون أن يجعلها ذلك تفقد خصوصيتها تمامًا، بل تظل محافظة على السمات الأساسية الثابتة التي تميزها عن غيرها.
الاضطلاع بأدوار حضارية: حيث تصبح الخصوصية الثقافية طابعًا خاصًا ومميزًا لبلد أو جماعة بشرية لها ما يميز هويتها عن غيرها بين الثقافات والحضارات الأخرى.
وعاء يضم روافد مشتركة: وهو ما يعني أن هناك عناصر متعددة تجمعت معًا في ثقافة معينة وأنتجت في النهاية الشكل النهائي والخاص لتلك الثقافة، ونجد ذلك في الثقافة المصرية على سبيل المثال التي تتكون من عنصر مصري قديم وآخر قبطي وآخر عربي وآخر إسلامي، ولا يمكن النظر إلى الخصوصية الثقافية الخاصة بها على أنها نتاج عنصر واحد من تلك العناصر، بل هي نتاج تراكم التأثر والتفاعل مع تلك العناصر جميعًا.
القدرة على الصمود والبقاء: تتكون الخصوصية الثقافية على مدار فترات طويلة وتتأثر بالمكان والزمان الذي تتكون من خلالهما، هذا بالإضافة إلى أعداد أخرى هائلة من العوامل التي تؤثر في تكوينها، وهو ما يجعل تلك الثقافة ثابتة وراسخة لا يمكن لأي ثقافة أو حضارة أخرى أن تجعلها تختفي أو تذوب فيها.
غلبة الطابع الديناميكي: إن ارتباط الخصوصية الثقافية بميراثها وتراثها الحضاري بالإضافة إلى قدرتها على الصمود والبقاء لا يعني ثباتها وتوقفها عند ذلك الميراث، بل هي تتطور وتتغير بما يتلائم مع كافة المستجدات من حولها دون أن تجعل تلك المستجدات تغيرها أو تطمس ملامحها الخاصة، بل تقوم باستيعابها وتحويلها بما يتناسب معها دون التأثير على خصوصيتها أو تفردها.
لا تقتصر الخصوصية الثقافية للعرب والمسلمين على الدين فقط؛ فهناك مجموعة من العناصر الأخرى كالتقاليد والأعراف السائدة والفلكلور (الفن الشعبي) وغيرها من الأشياء التي تجتمع معًا لتجعلها ثقافة خاصة وصلبة تتأثر بالثقافة الخارجية لكنها لا تنمحي أو تذوب فيها. وربما يعود ذلك إلى أن الدين الإسلامي يقدم طريقة للحياة تختلف عن تلك الطريقة البديلة التي تقدمها العولمة الغربية، لكن ذلك لا ينفي حقيقة أن الخصوصية الثقافية العربية أصبحت تواجه العديد من التحديات والمشكلات التي يجب البحث عن حلول لها للحفاظ على الخصوصية الثقافية الخاصة بها دون أن تضطر إلى التشرنق والانغلاق على ذاتها؛ لأنها حتى وإن أرادت فعل ذلك فإنه قد أصبح من المستحيلات في عصر الثورة المعلوماتية والتكنولوجية.
وسنجد أن أهم التحديات التي تواجه الخصوصية الثقافية العربية تتعلق باللغة العربية التي توحد بين جميع أفراد هذه الثقافة وتعطيهم هوية خاصة ومتفردة، وقد ازدهرت وانتشرت اللغة مع ازدهار الحضارة العربية والإسلامية، لكن حين أخذت تلك الحضارة في الضعف والركود تأثرت اللغة بالأمر نفسه، لكنها ظلت محافظة على وجودها في الثقافة العربية الإسلامية لأنها لغة القرآن الكريم، لكن ذلك لا ينفي تراجع مكانتها وقلة استخدامها حيث تم استبدالها باللغة العامية في الكتابة والإذاعة والإعلام لكن الشعائر الدينية والعبادات التي تؤدى بالفصحى ساعدت اللغة العربية على البقاء في خضم ذلك الصراع، بالإضافة إلى أن مفردات ومقومات اللغة العامية لا تصلح كلغة للكتابة والأدب والعلم.
وقد ظهر منافس آخر للغة العربية لا سيما في مجال العلم وهو اللغات الأجنبية؛ فبعد الركود الذي شهدته الحضارة العربية الإسلامية في القرن الرابع عشر كانت الحضارة الأوروبية الغربية تتطور في شكل طفرات سريعة وهائلة، حيث الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر ثم الثورة العلمية والتكنولوجية في القرن العشرين ثم ثورة الاتصالات والمعلومات في العقود الأخيرة، وهو ما جعل كافة الاختراعات الصادرة عن تلك الثورات تحمل مفردات ومصطلحات من لغات الثقافات الأوروبية التي نشأت فيها، وأصبح من الصعب إيجاد مقابل لها في اللغة العربية.
اكمل قراءة الملخص كاملاً علي التطبيق الان
ثقف نفسك بخطة قراءة من ملخصات كتب المعرفة المهمة
هذه الخطة لتثقيف نفسك و بناء معرفتك أُعدت بعناية حسب اهتماماتك في مجالات المعرفة المختلفة و تتطور مع تطور مستواك, بعد ذلك ستخوض اختبارات فيما قرأت لتحديد مستواك الثقافي الحالي و التأكد من تقدم مستواك المعرفي مع الوقت
حمل التطبيق الان، و زد ثقتك في نفسك، و امتلك معرفة حقيقية تكسبك قدرة علي النقاش و الحوار بقراءة اكثر من ٤٣٠ ملخص لاهم الكتب العربية الان